موسيقى شوبان رأد من رواد العصر الرومانسي...
امتازت قدرة شوبان في التنويع الكبير في التركيب و التعبير الموسيقي لمؤلفاته و لكن أهم من ذلك كانت مقدرته الفريدة في أن يحرك المستمع في درجة كبيرة بشكل و أسلوب شخصي مباشر و مختصر مفيد. كان ينطق بكلمات قليلة ليخبرك بما يفكر و هكذا كانت ألحان قصيرة تثير في المستمع أحاسيس و مشاعر كثيرة. و في الواقع أن بعض مقدماته (بريليود) القصيرة تشكل مثالا على التعبير الموسيقى في أكمل وجه عرفه الإنسان.
و من المتفق عليه بين جميع النقاد الموسيقيين أنه لم يجرأ أي موسيقار غير شوبان حتى يومنا هذا على عرض نفسه و روحه و ما يعصف في داخله من مشاعر و أحاسيس و أفكار مثلما فعل شوبان فكان في الواقع يعري نفسه بكل مشاعرها و يفتح نفسه للمستمع ليرى ما بداخله داخله من أحاسيس الألم و الأهواء المختلفة و الوحدة و الحيرة و الخوف مهما اشتدت هذه المشاعر و الأحاسيس.
العاطفة أو الفكر في موسيقى شوبان ليست عفوية أو صفة للقطعة أو مظهرها و إنما القطعة نفسها تشكل العاطفة بحد ذاتها. إن الاستماع مثلا لقطعة فالس يجعل المستمع ينخرط في التفكير في تتالي التركيبة اللحنية دون أن يسيطر عليه الفكر المنطقي , و بكلمات أخرى أني يستمع إلى القطعة بعقله دون أن يفقد قدرته على الاستماع بقلبه و أحاسيسه. و بالتالي تبقى العواطف البسيطة أو المعقّدة ظاهرة بوضوح في تعبيره الموسيقي. هذا جزء مهمّ جدا في شوبان و موسيقاه. ولهذا يسمى شوبان غالبا " شاعر البيانو ". و يمكن أن ننظر للشعر أنه فن يمكن بواسطته أن نجعل أفكارا أكثر جمالا و قوة باستخدام الكلمات و العروض و التشابيه مثلا و هكذا "شعر" شوبان الموسيقي حيث أنه استطاع أن ينقل أفكارا بشكل قوي بواسطة موسيقاه. يمكن لشعر شوبان الموسيقي أن يأخذ شكل مقدمة (بريليود) مدته ثلاثون ثانية أو قطعة سوناتا تمتد لثلاثون دقيقة. العديد من الموسيقيين كانوا شعراء في طريقتهم الخاصة لكن لم يستطع أي مؤلف موسيقي أن يرقي لقدرة شوبان في تاليف "الشعر" للبيانو.
وفي الواقع أنه هذه هي صفة من صفات العصر الرومانسي و قدرة شوبان على السيطرة في التاليف بهذه القدرة الحساسة و الصادقة مع مزيج من العبقرية جعله من أكثر الموسيقيين الرومانسيين نجاحا في التعبير عن الرومانسية بأصدق و أدق معانيها في مؤلفاته.
ومن المعروف أن شوبان كان معجبا جدا بباخ و موزارت و بيتهوفن أيضا. و هناك ربما بعد المتذوقين للموسيقى مما يعتقدون أنه لا يجب وضع شوبان في مصاف هؤلاء العمالقة. و بالرغم من أن هذا ذوق شخصي في الواقع إلا أنه ربما لعدم تأليفه موسيقى للأوركسترا (غير القليل جدا) و تركيزه على البيانو المنفرد يجعل المستمعين يعتقدون أنه لم يصل لمصاف هؤلاء العظماء و لكن لو قارن المستمع ما كتبه شوبان للبيانو لوجده في مصاف ما كتبه هؤلاء الموسيقيين الكبار للأوركسترا. و قد يكون من الواجب أن يعترف المستمع أن تخصص شوبان في موسيقى البيانو المنفرد يمكن اعتباره من سوء حظه أو من حسنه.
من حسن الحظ ذلك لأن شوبان قدم للإنسانية موسيقى جميلة ومتطورة كثيرة في التركيب الفني و الإثراء التعبيري إلى حد كبير مما جعلها محبوبة عالميا. وهذا تم في إطار شاعري بشكل مهم جدا للبيانو المنفرد. وأي دارس لموسيقى شوبان بعمق سيستطيع أن يرى لماذا اكتفى شوبان فب البيانو المنفرد و لم يهتم للجوء للأوركسترا كوسيلة للتعبير.
وأما من سوء الحظ فذلك بسبب ما تترك هذه الحقيقة (حقيقة أن شوبان كتب بشكل خاص للبيانو المنفرد) من سوء فهم أن شوبان هو موسيقار بيانو فقط و ليس موسيقار بكل معنى الكلمة.
وكما يقال أنه بعد بيتهوفن لم يبق سوى القليل جدا من العصر الكلاسيكي يمكن أن يضاف إلى ما حققه, و يمكن نقل هذه الحقيقة للعصر الرومانسي و القول بكل صدق أنه بعد شوبان لم يبق إلا القليل ليضاف إلى العصر الرومانسي. وعديد من النقاد الموسيقيين يشددون على أن موسيقى شوبان تعرض بداية و منتصف و نهاية العصر الرومانسي بكل خصائص هذه المراحل. ففي أعماله أظهر جميع الأساليب الفنية في التأليف و التراكيب و الموسيقية التي كونت أسلوب و فلسفة hلعصر الرومانسي بكامل مراحله. و قد كان تأثير شوبان واضحا جدا على ما أتى بعده في التاريخ الموسيقي. فيقال أنه بدون شوبان لما كان هناك ديبوسي و رافيل و فوريه و موسيقى برامز للبيانو و غيرها.
من الجدير بالذكر هنا أن أسلوب شوبان امتاز بالقدرة على السيطرة التامة في المجال الفني التقني للعزف. فكانت موسيقاه غنية بالإيقاع و التركيب اللحني. فقدرته على مزج اللحن الرئيس باليد اليمنى بينما تقوم اليسرى بحفظ الأيقاع ولكن بإعطاء حرية أكبر لاختصار أو ضغط السرعة syncopation بطريقة جميلة و مثيرة. كما أن استخدامه لأسلوب الزغردة (تريمولو) بطريقة سحرية و مسهبة جعل من موسيقاه مميزة فعلا. و من الأمثلة الرائعة على ذلك قطع المازوركا الجميلة.
لم تكن اليد اليسرى تركز على الهارمونية الغنية الجذابة فقط وإنما نرى العديد من مؤلفاته تجعل اليد اليمنى تعزف ليس فقط اللحن الرئيس (الميلودي) و إنما جزءا آخرا و هو هارموني ليضيف آفاقا لا حد لها في التعبير.